قضية الإبادة الأرمنية: ردّ اعتبار الإنسان واسترداد الأرض

ربما كان أمراً طبيعياً أن قضية ما، في مجرى اجراءات دفاع صاحبها عنها تتخذ مناحي مختلفة عبر الزمن عند التقاضي، وذلك بحسب الاولويات التي تستجد او عندما يأتي الوقت المناسب لطرحها اثناء مداولاتها، بمعنى الخروج من العموميات والدخول في التفاصيل، وهذا ما يجدر ذكره عند الكتابة عن مطالب الأرمن من الاتراك في شأن قضية الابادة الجماعية التي تعرضوا لها.

كان أهم بند هو إثبات حدوث ابادة العثمانيين للشعب الارمني (خصوصاً في فترة حكم حزب الاتحاد والترقي التركي) أيام الحرب العالمية الاولى وتحديداً بين عامي 1915 – 1917، والتي راح ضحيتها 1,5 مليون أرمني. وقد أنعم الله على الارمن باثبات الحدث بشكل قاطع لا يحتمل الشك، حيث اعترفت به 26 دولة حول العالم، و43 من مجالس الولايات في الولايات المتحدة الاميركية والكثير من برلمانات الدول ومجموعة كبيرة من الاكاديميين الاتراك أنفسهم.

إن الارمن ومعهم مؤيدو قضيتهم اكتفوا بالبراهين والاعترافات التي حصلوا عليها لغاية اليوم كإثبات حالة. وآن أوان دور المطالبة بالأضرار المادية المباشرة، وكذلك المعنوية غير المباشرة، التي ربما تساوي وتزيد على الاضرار المادية البشرية المباشرة التي تكبدوها كما ذكرنا.

أولى الخسائر غير المباشرة والمطلوب التعويض عنها وتحصيلها هي اعتذار الدولة التركية لهم واعادة الاعتبار الى كرامة الفرد الأرمني التي سلبت وسحقت طوال استيلاء الاتراك على ارمينيا لأكثر من ستة قرون واستعباد الشعب نساء ورجالاً وتسخيره لخدمة الباشا والبيك والشاويش، واهدار كرامته والتعدي على شرفه وانسانيته، مثلما فعل الاتراك ببقية الدول التي خضعت لحكمهم لمدد قصيرة او طويلة، وهذه حقيقة معروفة لجميع شعوب المنطقة. جعل الاتراك الانسان يشبه العبد المأمور والمرعوب الذي يحتاج الى وقت طويل لاعادة تأهيله كفرد حر مستقل لا يتملكه الخوف المستأصل في باطن وجدانه، وربما هذا ما يمنعه لغاية الآن، كما يمكن ملاحظته عند الكثيرين منهم بأخذ الموقف الشجاع المنسجم مع نفسه ومصالحه، وهذه حالة خطيرة جداً، كما اكدها عميد الادب العربي الاستاذ طه حسين عندما قال: “الرجل الذليل المهين لا يستطيع ان ينتج إلاّ ذلاً وهواناً، والرجل الذي نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن ان ينتج حرية واستقلالاً”، والتي فعلاً أثرت سابقاً وسوف تؤثر مستقبلاً في قراراته وتحديد مصيره بأسلوب متحرر من التعقيدات المترسبة في وعيه الباطن إن لم ينل التجاوب المشرّف المناسب عن رد الاعتبار لانسانيته.
ثاني تلك المطالب المرتبطة بالخسائر غير المباشرة التي اصابت الامة الأرمنية جراء احداث 1915 هي التخلف التمدني والتعدادي، وكذلك تلخبط سيرورته في تطوره الطبيعي كشعب مثل بقية المجتمعات الحرة على الأرض. إن التخلف التمدني المقصود به هو التخلف الناتج من التهاء المواطن الأرمني بالبيئة الرهيبة التي كانت تحيط به وخوفه على حياته وحياة عائلته وأملاكه من المحتلين، الذي انتج عدم استطاعته تطوير ذاته في شتى مجالات التمدن، منها ازدهار المعيشة المنبثقة بشكل طبيعي او تحصيل ما يمكن تحصيله من الدول المزدهرة حول العالم لرفع مستواه المعيشي والذي هو أهم دعائم تقدم الشعوب، كما ان التمدن كان يفترض أن يحتضن مجالات أخرى مثل العلوم والآداب والثقافة بأنواعها كالموسيقى والفنون الجميلة والمسرح وهذا ما لم يحدث، أما الأدب فلم ينل الوطن الارميني منه طوال الفترة الممتدة 600 عام غير القليل من المؤلفات الروحانية، او الدينية والقليل من أدب المقاومة، والذي ظهر فقط في آخر خمسين سنة من الاحتلال اي أواخر القرن التاسع عشر، اما بقية جوانب الأدب فلم يستطع الشعب ابداع اعمال كما كان ينتجها من قبل، والحالة نفسها في مثل العلوم بأنواعها، فالشعب في مثل ما ذكر من ظروف لم يستطع التفرغ لانتاج اي حصيلة من محصلات علوم الهندسة والطب والكيمياء والفلك، إلا القليل، ولو ان بعضهم كان مميزاً، ولكنه كان بجهود شخصية وفردية وليس نتيجة عمل مؤسساتي في العلوم الاكاديمية الراسخة. أما اضرار التعداد السكاني للشعب الارميني الصغير أصلاً فهي هائلة. فلو لم تحدث المجزرة (كحالة منفردة) وينخفض تعداد الشعب بمليون ونصف مليون شخص ونسبته 30% آنذاك، لكان اليوم تعداد الارمن وبالمعايير الدولية للتكاثر أكثر من 30 مليوناً بدلاً من 10 ملايين مبعثرين حول العالم، وبدلاً من ان يكونوا على أرضهم الاصلية الواسعة والمحتلة اغلبها من تركيا، وهذه خسائر جسيمة لا بد من وضعها على رأس الاولويات.

أما التطور الطبيعي الذي شمل غالبية الشعوب المعاصرة والمجاورة لارمينيا والواقعة في النطاق الجغرافي والاقليمي في القوقاز ذاته، والمقصود به التوسع في العمار والتحول الى الصناعات بأنواعها وخلق أجيال ومجتمعات متعلمة ومثقفة وخلق علاقات سياسية وديبلوماسية واجتماعية مع بقية دول العالم والتعمق في الادب العالمي، وكذلك الانخراط في نطاق العلوم العامة والترجمات في مجالات الثقافة العالمية الخ، والتي تعتبر اساسياً في مجالات التطور والنمو الطبيعي للشعوب والذي لم يتحقق منها لهذا الشعب الخلاق إلا القليل سواء في ارض الوطن او في الشتات، ناهيك بالتطور الاقتصادي الذي دمر كلياً طوال فترة الاحتلال ولم يستقم لغاية الآن.

كل الاضرار التي اصابت هذا الشعب الابي المبدع كانت بسبب احتلال الاتراك أراضيهم طوال ستة قرون وختامها الدامي بابادة 1,5 مليون أرمني. فكل هذه المرارة لا بد من ان يكون لها صدى وتفهم من بقية الشعوب والدول المتمدنة في القرن الحادي والعشرين وان تدعم طلباتهم المحقة بالمساعدة في استرداد حقوقنا المادية وهي اراضي وطن غال مغتصب ودماء شهداء مهدورة اولاً والتعويض عن الاضرار غير المباشرة وهي الاعتذار الصريح ورد اعتبار الانسان ثانياً ترسيخاً وتأكيداً لمبدأ نبيل وهو عدم افلات المعتدي من العقاب اينما كان ونصرة المظلوم واعادة حقه ولو بعد حين.

كيراكوس قيومجيان

(الكويت)

النهار

Share This