ألحان أرمنية وبيزنطية في تراتيل “من أجل وحدة كنائسنا والسلام في وطننا.. إلى الرب نطلب”

ليفون عباجيان والفرقة في كنيسة الزيتون تراتيل من أجل السلام في وطننا

أعادتني الأمسية التي أقيمت في كنيسة الزيتون هذا المكان الجميل والتاريخي المقدس بالذاكرة إلى نحو خمسة أعوام حينما سافرت برفقة الموسيقي جوان قره جولي إلى حلب الشهباء؛ حيث قدم حفلة منفردة على آلة العود في كنيسة السريان بحضور المطران يوحنا إبراهيم رئيس طائفة السريان الأرثوذكس في حلب وتوابعها، وكعادته جال قره جولي بين مختلف الموسيقا السورية ليقول وقتها المطران يوحنا في نهاية الحفل: «هذه هي سوريتنا الجميلة، الزاهية بألوانها والمتنوعة في حضارتها، فكيف لا نحبها ونضحي من أجلها»، حينها تباهى نيافة المطران بسوريته ووصفها بأجمل الكلام، لذلك ليس غريباً من القوى الظلامية أن يفعلوا ما فعلوه بهذا الرجل الذي يحب الله والإنسانية والوطن، هذه القوى التي تحرق الآن الأخضر واليابس في بلدنا العزيز، وربما روادني هذا الرجل في أمسية كنيسة الزيتون لأن طقس الكنيسة هي ذاتها بين كل الطوائف، أو لأن الأمسية تضمنت مقاطع عديدة من التراتيل الكنسية السريانية التي أبدع فيها المرتّل ليفون عباجيان كما باقي التراتيل الأخرى بمختلف لغاتها وأشكالها.‏

من أجل السلام في وطننا‏

تضمنت الأمسية التي أقيمت تحت رعاية صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام وبتنظيم من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك مختلف الطقوس المشرقية تحت عنوان «من أجل وحدة كنائسنا والسلام في وطننا.. إلى الرب نطلب»، بصوت المرتّل السوري ليفون عباجيان برفقة جوقة وفرقة موسيقية مجموعة واسعة من التراتيل الدينية وبلغات مختلفة، بدأها عباجيان من الطقس البيزنطي وترتيلة بعنوان «يا رب القوات، معنا هو الله»، ومن الطقس ذاته أدى هاليلوييا «ها هو ذا الختن يأتي».‏

‏استقت الموسيقا البيزنطية أصولها من الموسيقى اليونانية والسورية، فعند انتشار الديانة المسيحية في بلاد حوض البحر المتوسط كانت معالمها الأساسية قد استقرت في بلاد اليونان. وهكذا تأثرت الطقوس الدينية الشرقية بالموسيقا اليونانية، وتناولت من مقاماتها «ر.الموسيقى العربية» الموسيقية الثمانية ألوانها التعبيرية. وكان كهنة مدينة أنطاكية يعتقدون أن الشيطان يهاب الموسيقا والتراتيل الدينية، ورش الماء المقدس.‏

تمجيد الرب‏

وهكذا، أصبح للموسيقا الدينية عندهم دور وثيق الصلة بالكنيسة، وسعى أولئك الكهنة إلى تنقية موسيقاهم من الوثنية، فعارضوا الموسيقا الدنيوية، وحرّموا أداء التمثيل والعزف على الآلات الموسيقية التي كانت من العناصر الأساسية في الطقوس اليونانية والرومانية «نسبة إلى مدينة روما»، واستعاضوا عنها بجوقة المرتلين التي اعتمدتها بيزنطة. واتسع الغناء الديني فشمل الكنائس المسيحية في الشرق والجنوب الشرقي من أوروبا مثل روسيا والبلاد البلقانية، وتركز في مدينة بيزنطة التي سميت فيما بعد «القسطنطينية» ثم لقّبها العثمانيون بـ «استنبول».‏

‏كان الإمبراطور البيزنطي يُعدُّ «ظل الله في الأرض»، ولهذا كان حاكماً مقدساً يتطلب مركزه أداء احتفالات دينية ودنيوية معاً، فكان الغناء يعتمد نصوصاً شعرية في مديح الإمبراطور وتمجيد الرب. ثم ظهرت أناشيد أخرى في تمجيد القديسين ابتكرها بارديسان «154-222»، والقديس أفرام السرياني، بطريرك أنطاكية «309-373» الذي ألّف 150 نشيداً معظمهم في مديح السيدة العذراء.‏

يرتبط التطور الموسيقي الغنائي البيزنطي بالشعائر الأرثوذكسية منذ عهد القديسين باسيليوس «329-379»، ويوحنا «فم الذهب» «347-407»، أسقف القسطنطينية عام 390، وقد أحدث هذان القديسان نوعين من الغناء الديني، يخص الأول منهما طقوس السنة الجديدة وبعض الأيام المقدسة، والآخر خاص بقداسات أيام الأحد والمواسم العادية الأخرى. واستمر هذان النوعان من الغناء الديني دون تغيير لقرون عدة، ولاسيما في شرقي أوروبا وشمالي أفريقيا وعند الشعوب السلافية في البلقان.‏

‏ارتكز الغناء البيزنطي على «اللحن الموحد»، أي المفرد، في جوقتين غنائيتين الأولى من الرجال، والثانية من النساء والصبية معاً. مع أداء اللحن الأساس من قبل مغنٍ منفرد، وصار هذا النظام سائداً في التقاليد الشعائرية البيزنطية، واستمر مدة طويلة من الزمن. وكان كثير من الشعراء يلحنون أناشيدهم أيضاً، وقد أُطلق عليهم «الشعراء الملحنون أو الموسيقيون». وكان القديس يوحنا الدمشقي «نحو 676-754»، أحد أولئك الشعراء الملحنين، إذ قام بجمع وتصنيف أناشيد الشعائر الدينية في كتاب «الأصوات الكنسية الثمانية» التي صارت القانون الأساس للإنشاد البيزنطي، ففي كل أسبوع كانت تؤدى أناشيد متقاربة في ألحانها المقامية في جوقات غنائية، وعُدّت دورة الأسابيع الثمانية «بعدد المقامات» هذه، فرضاً طقسياً ثابتاً في الكنيسة الأرثوذكسية، ثم امتزجت مع طقوس الكنائس الشرقية المحلية.‏

الاهتمام بهذا النمط الموسيقي‏

يقول عبجيان عن اختياره لهذا النمط الموسيقي ليتابعه ويدرسه بتعمق كي يقدمه للناس من جديد: وعن اختياره لهذا النمط الموسيقي يقول: «لا أعلم بالضبط من أين وُلِدَتْ فيّ رغبتي باختيار هذه الأنماط الموسيقية، ولكن أتذكر منذ طفولتي كنتُ أحب الاستماع إلى الأنماط الموسيقية التي لا أسمعها في منزلي «أي الموسيقا الكلاسيكية والأرمنية اختصاص والدي المايسترو الراحل بوغوص عباجيان، أو موسيقا الجاز اختصاص أخي الموزع الموسيقي ناريك عباجيان»، فكانت الموسيقا الشرقيّة بشكل عام والدينيّة منها بشكل خاص محط اهتمام لي.. وعن طريق وسائل الإعلام خاصةً في أعياد الميلاد والفصح بدأت أتعرّف على الموسيقا الكنسيّة المشرقيّة، وبالأخص الموسيقا البيزنطيّة، وفرادتها هي التي وجّهتني إلى كنيسة الروم الأرثوذكس في حلب لتعلّم مبادئها وألحانها، أما بالنسبة إلى باقي الأنماط التي سمعتموها في الأمسية من السريانية والمارونية فأتت نتيجة تنقلّي بين كنائس حلب من مختلف الطوائف وخاصةً في فترة الصوم الأربعيني وأسبوع الآلام الذي يسبق عيد الفصح، والموسيقا الأرمنية لا داعي للإجابة عنها فأنا أرمني بالأصل ومن البديهي أن أنقل تراث كنيستي الأرمنية إلى الحضور».‏

كما أدى عباجيان في هذه الأمسية ترتيلة «يا رب ارحم» من الليتورجيا الأرمنية لكوميداس، «أوّاه»، استيشيرات الفصح «إن فصحنا المسيح المنقذ» لمتري المر، «اليوم يوم القيامة» لأندوراس معيقل، «إنني أشاهد خدرك» لبرينكوس، «اليوم علق على الخشبة»، «قانون الفصح» بلغتين اليونانية والعربية، واستمعنا إلى الطقس السرياني من خلال «يا رب ارحمنا، آخ تاكوره، نشكر كل حين» ومن الماروني «ياشعبي وصحبي، تشبوحتو لموريو، قامت مريم، إن المسيح قد قام»، وأيضاً اللحن الأرمني من خلال «أين أنت يا أمي، سبحي الرب يا أورشليم لشنورهالي».‏

قصيدة مديح العذراء‏

الموسيقا الكنسيّة كنز ذو قيمة لا تثمن، يفوق ما سواه من الفنون، لأن الترتيل الكنسي الملازم للألفاظ هو جزء من الطقوس الاحتفالية، وقد وضع «برديصان الرهاوي» المولود عام 154م الذي تنّصر وعاش حتى عام 222م مائة وخمسين نشيداً على طريقة مزامير داوود ولقّنها الشبيبة الرهاوية بعد أن وقعها على ألحان شتى تخلب القلوب. ومار أفرام الذي عاش بين عامي 306- 373م هو أول من اشتهر بالموسيقا الكنسية الشرقية، وقد أدخل رؤساء الكنيسة فن الموسيقا إلى بيعة الله لأسباب شتى منها مناهضة ألحان الوثنيين وأصحاب البدع المضرة بالعقيدة والآداب، الاستعانة بها على النشاط في عبادة الله، تنبيه الحواس إلى أدراك معاني الصلوات. وبعد القديس أفرام السرياني، نبغ موسيقيون كنسيون آخرون منهم اسحق الرهاوي، ومار بالاي أسقف بالش، ومار رابولا وغيرهم حتى بلغ عدد الملحنين المشهورين في الكنيسة السريانية حينذاك سبعة وثلاثين ملحناً منهم خمسة عشر ملحناً من السريان المشارقة مثل «مار شمعون، مار صباعي، نرساي، يشوع ابن نون، إيليا الانباي وغيرهم».‏

ولا بد من الذكر بأنه في القرن السادس عشر عندما وضع سويرس السرياني أسقف أنطاكية نظاماً موسيقياً مبنياً على ثمانية ألحان وتم توزيع الألحان إلى أربع ألحان أصلية وأربع ألحان مشتقة ظهرت قصائد القديس الراهب رومانوس الحمصي البديعة التي وصلنا منها أجزاء ترتل في صلاة السحر ومنها أيضاً قصيدة مديح العذراء المعروفة التي ترتل حتى الآن في كل يوم جمعة من الصوم الكبير. وفي القرن الثامن ثبت القديس يوحنا الدمشقي التقسيم إلى ثمانية ألحان في الموسيقا الكنسية بتأليفه كتاب الأكتويخس «أي الألحان الثمانية» وهو عبارة عن تراتيل مقسمة حسب الألحان لكل لحن تراتيله الخاصة، كما ألف تراتيل كنسية كثيرة ووضع ألحانها بمشاركة مجموعة من الرهبان الدمشقيين هم القديس قزما الدمشقي والقديس أندراوس أسقف كريت الدمشقي الأصل والقديس ثيوفانس الذي صار أسقفاً على إزمير، وبعدها وزع هذا النظام الترتيلي المعمول فيه بالشرق إلى روسيا وغيرها.‏

تميز وتفرد‏

يقول عباجيان عن الموسيقا الكنسية الشرقية: «إن عدنا تاريخيّاً إلى الجذور الموسيقية لألحان كنائسنا المشرقية فهي بالطبع متأثرة بالموسيقا الدينية الوثنية، إلا أن الكنيسة طوّرت الألحان وأعطتها طابعاً خاصاً مما أعطاها التميّز والتفرد، ومن الجدير بالذكر أن كل طقس من الطقوس المشرقية يحمل في طيّاته عدة مدارس وأنماط موسيقية ولحنية، ففي الترتيل البيزنطي «السوري المنشأ» لدينا المدرسة القسطنطينية والمدرسة الآثوسية في اليونان وغيرها، وفي الموسيقى السريانية لدينا مدرسة الرها ومدرسة دير الزعفران، وفي الموسيقى المارونية المدرستين اللبنانية والحلبية، وفي الموسيقى الأرمنية كذلك عدة مدارس.. وبالتأكيد إذا أردنا التحدث عن كل نمط من أنماط الموسيقى الكنسية المشرقية فنحن بحاجة إلى آلاف الصفحات».‏

هكذا بسط عباجيان صوته للناس الغارقين في أحزانهم من أجل هذا الجرح النازف ليرفع يديه إلى الله ويرتل من أجل أن يعود الحب بيننا وأن يعود الأمن والأمان إلى سوريتنا الغالية، وجال بصوته الجميل والمدهش بين مختلف الطقس الكنسي المشرقي ليعود إلى آلاف السنين التي مرت.‏

إحياء التراث الكنسي المشرقي‏

ويصف الأمسية قائلاً: «أمسيتنا كانت صلاة من أجل وحدتنا والسلام لوطننا الغالي، إضافة إلى ذلك هي إحياء لتراثنا الكنسي المشرقي العريق الذي يوحد طقوسنا، ولا بد أن أشكر كل من عمل معي لإنجاح هذه الأمسية، الموسيقيين منهم والجوقة، رغم هذه الظروف الصعبة التي نمر بها ولكنهم ظلوا بجانبي حتى آخر لحظة، أتمنى نكون قد استطعنا أن نعلو صوت الترتيل والموسيقا على كل الأصوات التي نسمعها من حولنا».‏

ليفون عباجيان من مواليد حلب 1991 درس مادة الصولفيج والموسيقا الغربية في المعهد العربي للموسيقا بحلب لمدة ثلاث سنوات وتتلمذ على يد والده المايسترو الراحل بوغوص عباجيان واحتلت الموسيقا البيزنطية المرتبة الأولى في اجتهاداته الموسيقية، فتتلمذ على يد ألمع الأساتذة في الكرسي الأنطاكي لكنيسة الروم الأرثوذكس في سورية ولبنان أبرزهم راهبات دير سيدة البشارة في حلب، المطران د. رومانوس داؤود، أ. جوزيف يزبك، رهبان دير رقاد والدة الإله، حمطورة وآخرون، وأسس جوقة النور لإحياء التراث الكنسي المشرقي في مدينة حلب، حيث أقام عدة أمسيات منها ضمن مهرجان مساحات شرقية بدمشق.‏

إدريس مراد

الملحق الثقافي

الثورة

Share This