تقسيم هذه الساحة المرعبة…

بقلم آرا سوفاليان 

في كل ساحات وشوارع مدن العالم توجد معالم عظيمة تخلد هذه الساحات وهذه المدن ففي الشانزيليزيه نجد معلم حضاري هو قوس النصر وبرج ايفيل، وفي الترافلكر سكوير او ميدان الطرف الأغر (سمي بهذا الاسم نسبة إلى الانتصار الانجليزي الكبير في معركة الطرف الأغر البحرية والتي دَمر فيها الأسطول البريطاني أسطولي فرنسا وإسبانيا عام 1805م) نجد تمثال ضخم يتوسط الساحة لقائد معركة الطرف الأغر اللورد نيلسون، محاطاً بأربعة أسود برونزية ومجموعة من النوافير والتماثيل المتباعدة.
ساحة ستيفانز في فيينا وهي اشهر ساحات اوروبا ويقصدها السواح من كل ارجاء العالم وسميت بهذاالاسم نسبة الى كاتدرائية ستيفن التي بنيت في القرن الثاني عشر وهي من روائع الفن المعماري الاوروبي، ساحة القديس بطرس في الفاتيكان بنيت امام كنيسة القديس بطرس وتوجد في وسط الساحة مسلة يروى انها كانت في الساحة التي قتل فيها القديس بطرس رأس الكنيسة، وتشكّل الساحة مع الكنيسة شكل مفتاح، ويرمز هذا المفتاح للقديس بطرس بالذات.
إذاً لكل مدن العالم ساحات وفيها ما يرمز الى تاريخها ويمجد ذكرى بعض الابطال أو القديسين أو الشهداء…وللأترك ساحة عظيمة في استمبول اسمها ساحة تقسيم، سرقوها من الروم أصحاب القسطنطينية الاصلاء، ولم تعد تحوي في عهد الأتراك غير المشانق.
لكل دول العالم وزارات سياحة ومديريات للبريد تعنى بشؤون السياحة وتصدر كتيبات ونشرات سياحية وكروت بريدية أو كروت بوستال سياحية تحوي صور تتحدث عن معالم البلد يرسلها السائح من مكان تواجده الى اهله وأصدقاءه الذين تركهم خلفة في البلد التي جاء منها، بعد إلصاق الطوابع المتعلقة…إلا في تركيا فهناك كروت بوستال وعليها طوابع وتصوّر المشانق.
كانت ساحة تقسيم هي ساحة الرعب بالنسبة لأرمن استمبول لأنه لم يمكن يمر يوم دون أن يعلق أرمني أو إثنان أو ثلاثة وأحياناً عشرين، يعلقون على أعواد المشانق، دون محاكمة ودون حكم لأن هذه الامور التافهة كان يتم استدراكها أو نسيانها فيما بعد.
واليوم وبعد أن فرغت تركيا من الأرمن أصحابها الأصليين، تحدث أشياء غريبة في هذه الساحة التي استخدمتها الحكومات التركية المتعاقبة لإرهاب المواطنين عن طريق نصب المشانق، تحدث أشياء غريبة تشير الى صحوة ضمير هائلة كانت غير متوقعة.
في هذه الساحة بالذات يخرج بعض المتنورين يطالبون الحكومة بإنصاف ضحايا الابادة الأرمنية ويطلبون الاعتراف بما حدث ويطلبون التصالح مع الذات، ويطلبون الصفح من الضحايا، ويطلبون أيضاً اعادة توطين المطرودين أصحاب البلاد الحقيقيين والتعويض عليهم. وقد رافقت هذه الحركات العفوية منذ بداياتها وظننت انها تمثيليات هدفها شد نظر العالم الى ان في الامة التركية اناس متنورون وحضاريون وبالتالي فإن حرمان تركيا من الانضمام الى الاتحاد الأوروبي فيه بعض التعسف والظلم، ليتبين في خطوة لاحقة ان هذه الحركة في ازدياد وقد انضم اليها بعض اساتذة الجامعات وبعض الليبيراليين وتولت الحكومة ملاحقة هؤلاء وقدمتهم للعدالة وصدرت بحقهم أحكام سجن وغرامات، وفي جنازة الصحفي الأرمني هرانت دينك صاحب صحيفة آغوس الذي قتل على مقربة من مبنى صحيفته انكشفت بعض الأمور الغريبة، فلقد حضر الجنازة عشرة أضعاف كل الارمن الذين يعيشون في استمبول، فمن هم هؤلاء ومن أين جاؤوا؟
هؤلاء هم أصحاب صحوة الضمير، هؤلاء هم من أثقل ضمائرهم التاريخ الاجرامي لحكوماتهم في الماضي وفي الحاضر أيضاً، هؤلاء انحدروا من آباء أرمن اجبروا على تغيير دينهم، أومن امهات تم اغتصاب طفولتهم ومجمل انسانيتهم، هؤلاء جاؤوا في 24 نيسان 2013 وقبل سنة وسنتين وثلاثة وعشرة، جاؤوا الى ساحة تقسيم يحملون الشموع ويحملون الورود وصور الضحايا من الأرمن الذين اعدموا هنا في هذه الساحة أو قتلوا في اماكن اخرى بأوامر ظالمة ووحشية ومروعة، تبدأ بحبل المشنقة وتنتهي بسحق الرؤوس بالحجارة الكبيرة وبفسخ الأجساد بإستعمال الحبال والأحصنة، وبحرق الناس أحياء أو رميهم في البحار والانهار أو وضع رصاصة في صدورهم وغالباً في رؤوسهم.
هؤلاء جاؤوا يطلبون العدالة في صحوة ضمير يحملون في ايديهم كتابات تخص مذابح الارمن ويقولون فيها (هذا الألم يعنينا جميعاً)…أيقنت بعد جنازة هرانت دينك أنها صادقة، وهكذا فإن أشياء غريبة تحدث في هذه الساحة التي استخدمتها الحكومات التركية المتعاقبة لإرهاب المواطنين، والمسألة اليوم لا تتعلق برفض تحويل منتزه عائد للبلدية الى مجمع تجاري بل برفض أشياء أساسية وقبول أشياء أخرى بل واعتمادها وهي بدء المواطنين وعبر ساحة تقسيم بالذات، بإرهاب الحكومة.

آرا سوفاليان 
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني 
دمشق 01 06 2013  
[email protected]

Share This