نماذج من مفهوم الإبـادة لدى العرب

Genocide museum1تبدأ الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بالاحتلال والتهجير والقتل وتنتهي بإبادات الجنس. والإبادة الأرمنية جسدت ذلك حيث جرى القتل والنفي والإبادة في مراحل متتالية.

والمجازر ليست سمة مقتصرة على الإنسان المتحضر في عصرنا ولا على الإنسان البدائي، بل هي سمة قد نجدها عند الإنسان أي إنسان مهما اختلف الزمان أو المكان. ولأبناء القرن العشرين دور مع الأسف كبير في تخليد هذه الجريمة الشنعاء ولاشك أن للمجازر البشرية الحديثة عواقب وخيمة ومخيفة[1].

في هذا الفصل نوضح آراء رجال الفكر والثقافة السوريين للإبادة الأرمنية وانعكاسها في فكرهم.

ونبدأ مع الباحث د. علي سلطان[2]، فمن خلال إجابته على أسئلتنا يحلل أسباب وقوع الحروب في المنطقة ويرى أن الأحداث الخطيرة التي كانت تتعرض لها الشعوب الصغيرة والضعيفة هي التي كانت تحدث على تخوم الدول الكبرى أو الإمبراطوريات. وأن تلك الأحداث التي كانت تمر على هذه الشعوب الصغيرة تتراوح بين المعاملة الطيبة كما كانت بين الدول العربية الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين وأرمينيا، وبين حد الإبادة كما حدث في مذابح الأرمن على أيدي الأتراك المتعصبين.

وبرأي سلطان فإن الأتراك أرادوا إخماد ثورة الأرمن. ويقول حول تهجير الأرمن: “كانت أحداث 1915 عنيفة جداً اضطر فيها الأرمن تحت القتل والذبح والتهديد إلى الهروب والنجاة بأنفسهم في منطقة أضنة فتوافدوا إلى أقرب منطقة وهي سوريا وهم بحالة مأساوية محزنة . وعندما وصلوا كانوا هياكل بشرية، جياعاً ممزقة ثيابهم وأرواحهم وكانوا خلال مسيرتهم الطويلة يتساقطون على الدروب كالقطعان التي تطاردها الذئاب من كل صوب”.

في ذاكرة الباحث ذكريات من السلمية عن الأرمن الذين عاشوا بسلام مع العرب وعند عودتهم إلى أرمينيا عام 1945 كانوا يرفعون العلم السوري وينشدون النشيد السوري ويبكون حزناً على بلدهم السلمية . ويرى علي سلطان أن مأساة الأرمن واحدة من مآسي التاريخ ويشدد على أن تلك المآسي لا نهاية لها ولا حدود.

من جهة أخرى يستوقفنا الباحث د. خليل موسى[3] أمام مصطلح – نكبة -. فهو يرفضه لأنه لا يتوافق مع الحقيقة، لأن الشعب الأرمني عاش مأساة جماعية. فهي برأيه – تراجيديا قومية – ويقول: “لقد استهدف الشعب في شبابه وأرضه وحضارته وسلّطت عليه البنادق والسكاكين ولوحق في البلدان التي التجأ إليها الناجون منه . فهي مجازر ، مآس ، مذابح الخ…”. ويعود بأسباب المجازر الأرمنية إلى الصراع بين الحضارة والهمجية من جهة ومن جهة أخرى إلى مساندة بعض الدول الأوروبية للإمبراطورية العثمانية وفي مقدمتها ألمانيا وبريطانيا والمنظمة الصهيونية العالمية.

أما الباحث منذر الموصلي[4] فيرى أن العثمانيين أرادوا الانتقام من الروس فاستغلوا حماس الأكراد الديني وجهلهم وفقرهم ضد الأرمن. ويؤكد منذر الموصلي في لقائنا معه على أن العرب لم يذبحوا الأرمن لأنهم أصحاب الإسلام، فالإسلام نظام أخلاقي ينهي عن الذبح والشر والقتل.

ويتحدث لنا عن المجازر الأرمنية قائلاً : “جرت المذابح في درابزون وأرضروم وديار بكر وبتليس وماردين وقيسارية وسيواس .. وهي المذابح المشهورة التي كان العثمانيون وراءها ودفعوا هؤلاء التعساء إليها دفعاً لترويع الإمبراطورية وبث الفروق بين شعوبها وتكريس الطائفية بينها لمنع تكتلها وتساندها ضد الطغيان الحميدي، وللحيلولة دون مطامحها الوطنية في الحرية والاستقلال”.

ويبدي رأيه في كتابه “عرب وأكراد” ويحلل المجريات ويؤكد على أن تلك المجازر الجماعية قد تم التخطيط لها مسبقاً واستمرت طويلاً: “وكان عبد الحميـد قد مهَّد لهذه المذابح بالسعي إلى توطين الأكراد في أنحاء أرمينيـا. وبعد هذه المذابح هيأ هذا الطاغية مصائر مشابهة للعرب والأكراد نفذتها فيما بعد حكومـة الاتحاد والترقي عندما عمدت إلى اضطهاد العـرب وتشتيت الأكراد وتهجيرهم إلى الأناضول ..”[5]. ويعتبر الموصلي إبادة الأرمن نتيجة لسكوت أوروبا ولذلك يلفت إلى أن مسؤولية الدول الأوربية لا تقل عن مسؤولية تركيـا.

ويرى أنه كان للمجازر الأرمنية ثلاث نتائج : أولاً عجَّلت بنهاية الإمبراطورية العثمانية وثانياً جعلت للأرمن دوراً عالمياً على خريطة الكون ودفعتهم للاتحاد القومي وثالثاً جعلت الأرمن يناضلون من أجل إثبات وجودهم في المجتمع الإنساني.

نحن لا نستغرب المفاهيم والمشاعر التي يكنها العرب تجاه الأرمن وثقافتهم. فعبر السنين الماضية كان المفكرون السوريون يشاركون دائماً في نشاطات الأرمن، ليشاطروهم الذكريات الحزينة المتبقية عن أيام العثمانيين وليساندوهم في الدفاع عن حقوقهم.

أحد المبدعين السوريين في القرن العشرين في مجال المسرح، الكاتب المسرحي وليد إخلاصي استخدم في مؤلفاته شخصيات أرمنية. فعبر روايته – بيت الخلد – خلَّد ذكرى بطل أرمني من حلب. وفي حياته الشخصية انبهر وليد إخلاصي بإنسانية ونبل ذلك الرجل.

وفي لقائنا معه يقول إخلاصي معتمداً على الرأي العام في المجتمع الشعبي الحلبي في استقبال السوريين للأرمن: “إن اللجوء الأرمني إلى سوريا بالذات كان له مبرر جغرافي وتاريخي. إذا عدنا إلى الطبيعة النفسية للعرب السوريين، نجد أنهم كانوا يتعاطفون ليس فقط مع الشعوب التي وقع عليها الظلم التركي بل مع أي شعب يقع عليه الظلم، فالطبيعة الجغرافية خلقت نوعاً من السلوك الأخلاقي”.

في الوقت نفسه يحلل لجوء الأرمن إلى الأراضي السورية واحتماءهم بالسوريين كنتيجة للإبادة، ويرى توطن الأرمن في سوريا ظاهرة تاريخية صحيحة لأنها ساهمت في تعميق العلاقات الوطيدة بين الشعبين. وبهذا المعنى يقول: “لكن هذه العلاقة توطدت عندما اختار الناجون من المذبحة الأرمنية المشهورة الاستيطان في سوريا، برهنوا عن جدارة في البقاء، كانوا جديرين بالبقاء لأسباب كثيرة، وعلى رأس هذه الأسباب أن قدرة التمازج التي أبداها الشعب الأرمني مع الشعب المضيف السوري هي القدرة على إثبات الذات من خلال المهارة في أداء الخدمات التي ستظهر بعد ذلك في قدرة الأرمن على العطاء والإنتاج، مما جعل التقارب مزيجاً من التعاطف الذي انتقل إلى درجة الإعجاب”.

ويبين إخلاصي في إجابته أن الأرمن أثاروا إعجاب السوريين من خلال سد نقص الكوادر والعاملين في الصناعات والمهارات اليدوية، فقد شاركوا في الحياة الاقتصادية والتجارية والصناعية والثقافية في سوريا ليبرهنوا على أن سوريا هي أيضاً وطنهم.

يشير وليد إخلاصي إلى أنه كان من المتوقع أن تنعقد الصداقة بين الشعبين التركي والعربي لكن الذي حصل أن الإمبراطورية الصاعدة التي دامت قروناً عديدة وسمِّيت أخيراً بالرجل المريض أججت العداوة بين العرب والأتراك بالرغم من التوافق الديني.

وعن القضية الأرمنية يبين الباحث د. اسكندر لوقا في إجابته أنه تتساوى النظرة إلى المسألة الأرمنية والمسألة العربية وكل المسائل التي أرقت وتؤرق إنسان اليوم والمستقبل. وبرأيه فإن شعوب الأرض تنهض وتدافع عن قضاياها العادلة حتى لا تسود شريعة الغاب مستقبل البشرية على نحو ما حدث بالأمس القريب أو البعيد. “وحتى يكون القرن الواحد والعشرون بداية ألفية تضع الإنسانية على مسارها الإنساني الصحيح وتضع الإنسان بغض النظر عن الانتماء إلى الجنس أو المعتقد أو اللون هدفاً لها لتأمين أمنه وحريته على أرضه”، مؤكداً أن الأمل يتمحور في ألا ينسى صاحب الحق حقه مهما طال الزمن.

وانطلاقاً من تجربته الشخصية ومعمماً المسألة يشير إلى تهجير أبناء لواء الاسكندرونة خلال السنوات القليلة التي أعقبت عمليات التهجير والمذابح الأرمنية.

أما عن مفهومه للإبادة ورأيه بالمذابح فيصنفها د. اسكندر لوقا على أنها جريمة عصر لا تقل وحشية عن جرائم النازية والصهيونية ضد الإنسانية. ويقول أنها لطخة عار على جبين هؤلاء العتاة جميعاً.

وأما فيما يتعلق بالإنصاف، فيرى الباحث أن الاعتراف بالذنب المقترَف تجاه المظلوم أمام كل مَن كان شاهداً على وقوع الظلم عليه هو السبيل لإنصاف المظلـوم.

يشاطره الرأي الصحفي والباحث سمير عربش الذي استمر بالمشاركة في كافة الاحتفالات التي تقام في مناسبة ذكرى شهداء الأرمن في 24 نيسان من كل عام. حيث يرى أن إحياء ذكرى الشهداء يمثل ذروة تمسك ذلك الشعب بقضيته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

وحول سبب انتقائه لأرمينيا وقضيتها مادة لكتابه، يعلق أنه حين وجد أن المكتبة العربية تفتقر إلى المزيد من تسليط الأضواء على هذه القضية التي حوربت مراراً بالتعتيم تارة وبتشويه الحقائق تارة أخرى وحيث أنه لابد من المزيد من هذه الكتب فانكبَّ على إعداد وتحقيق كتاب “أرمينيا أرض وشعب”[6] الذي جاء بأسلوب سردي قصصي ليساهم في تسليط الأضواء على المأساة ويكون بمتناول القارئ العربي ليعرف أين موقعه وأين موقع الشعب الأرمني مكتشفاً في نهاية المطاف أنهما في خندق واحد.

ويشرح لنا مطولاً عن العلاقات الطيبة بين العرب والأرمن وعن دور الأرمن الإيجابي في حياة سوريا. ويقول: “صحيح أن الأرمن قدموا إلى بلادنا حفاة عراة، فهم لم يعتمدوا نهائياً سياسة الاتكال على الغير بل سرعان ما بدؤوا ينسجمون في المجتمعات التي احتضنتهم معتمدين على مهاراتهم وجهدهم”.

وعند توجهنا بالسؤال إلى الكاتب حسن م. يوسف صاحب قصة وسيناريو وحوار مسلسل “أخوة التراب” التي أبرز فيها ممارسات القهر والاضطهاد ضد العرب في فترة الاحتلال العثماني للبلاد، وجدنا أنه مدرك تمام الإدراك للحقيقة أن سبب التهجير والتطهير العرقي التي تمت ممارستها ضد الأقليات في الإمبراطورية العثمانية كانت نتيجة لسياسة الطورانية.

من منطلق الدراسات التي اضطلع بها حسن م. يوسف يوضِّح مفهومه الخاص بالإبادة: “لقد مارس الأتراك الطورانيون ألواناً من القسوة على جيرانهم لا مثيل لها في تاريخ هذه المنطقة من العالم إلا ممارسات الصهاينة ضد العرب وخاصة الفلسطينيين. ولأننا ذقنا طعم نفس الظلم فقد تعاطفنا مع إخوتنا الأرمن الذين تم تهجيرهم من أرضهم في واحدة من أقسى عمليات التطهير العرقي في النصف الأول من القرن العشرين”.

ويؤمن الكاتب أن الإنسان السوي لا يبدي رأياً بالمذابح بغض النظر عن مسوغاتها وظروف وقوعها. لأن الإنسان السوي برأيه يقف ضد المذابح ويرفضها كائناً من كان هو الذابح وأي كان هو المذبوح . ويصل حسن م. يوسف إلى الاستنتاج الذي يؤول إلى “ضرورة تربية أنفسنا وأبنائنا على الاعتراف بحق الآخر في الوجود والاختلاف” لأنه آن الأوان للبشرية كي تجد طريقة ما لإيقاف جنون العنف الذي تعيشه.

من اللاذقية يجيب أحد المبدعين السوريين في القرن العشرين وهو الكاتب نبيل سليمان على أسئلتنا منطلقاً من تجربته في كتابة روايته “مدارات الشرق” حيث كتب عن مذابح الأرمن. وحول مفهومه للمذابح الأرمنية يقول: “هذا هو القرن العشرون ينتهي كما ابتدأ ، من مذابح الأرمن الى مذابح الألبان إلى مذابح العراق إلى مذابح الهوتو والتوتسي. بقدر ما يصعب علي أن أصدق هذه الوحشية في الإنسان بقدرما لازلت أصدق أن الإنسان نفسه قادر على أن ينتصر على الوحش، قادر على أن يفضح هذا الوحش الذي ذبح الأرمني أو الفلسطيني أو الكردي أو أو ..”.

ويظهر نبيل سليمان أن الكتابة هي الوسيلة الدائمة والبسيطة لمواجهة القتلة. ويعتبر القضية الأرمنية جرحاً من الجراح التي لا تنتهي وهي كالقضية الفلسطينية وصمة عار على جبين القرن العشرين.

يقترب الحقوقي لويس قشيشو من مفهوم الإبادة من منظورها القانوني. ونراه في إجابته يؤكد أن ضمير العالم المتحضر يجب ألا ينسى التاريخ الذي سطره الشعب الأرمني بدمائه واستشهاده في سبيل الحق والعدل والسلام.

وفي هذا الإطار يقول: “إن الشعب الأرمني من خلال تحقيق عدالة قضيته سيتمكن من الإسهام في ترسيخ مفاهيم العدالة والسلام في قلوب أبناء القرن الحادي والعشرين. وإن الأرمن سيحققون أهدافهم في العيش الكريم إذا ما بقوا أوفياء لوصية الشهداء المليون ونصف المليون الذين سقطوا من أجل الدفاع عن قيم الإيمان الصادق والوطن العزيز”.

يعترف الكاتب ورئيس اتحاد الكتاب سابقاً في الرقة خليل جاسم الحميدي أن احترامه للشعب الأرمني تجلى من خلال كتاباته، ففي مجموعته القصصية “المغني والنحلة” ثمة قصة الجبل التي تتحدث عن مأساة الشعب الأرمني من خلال أسرة أرمنية هُجرت من وطنها، وذبح أفرادها واحداً بعد الآخر.

وانطلاقاً من تجربته يشرح الحميدي خلال لقائنا معه أنه عاش في حي واحد مع عشرات العائلات الأرمنية، ونظراً لما تتمتع به هذه العائلات من طيبة وفقر ومودة وشقاء، استطاعت أن تحظى بعطف ورعاية وحنان أسر الحي، بل الأسر الرقاوية كلها، التي تعاطفت مع الأرمن منذ بداية السوقيات والمذابح التي تعرضوا لها على أيدي الأتراك العثمانيين، حيث مدوا لهم يد العون والحماية والمساعدة، فأنقذوا أرواحاً أرمنية كثيرة من الأطفال، والنساء والرجال، كانت مهددة بالذبح، بالإبادة والضياع والجوع والاغتصاب.

وفيما يتعلق بعلاقة أهل الرقة بالأرمن، فإن كثيراً من أهل الرقة تزوجوا من نساء و فتيات أرمنيات، ويصفهم الكاتب على أنهن كن مثال الزوجات المخلصات، والأمهات المربيات، ومثال الأخلاق الحميدة والشرف والصدق والأمانة.

وحول مفهومه للإبادة، يرجع الكاتب أن السبب كان الحقد التركي على الشعب الأرمني الذي تجسد عبر التهجير والتشريد و الاغتصاب والتجويع والذبح، فيقول: “وكأن تركيا الطورانية كانت تنتقم لشرفها ، وهزائمها من الشعب الأرمني الأعزل. وكان ما حدث مجزرة، كانت تريد إبادة شعب بكامله، بعاداته وتقاليده وحضارته وتاريخه ووطنه، ولهذا لم ترحم المجزرة أحداً، و لم تستثن أحداً، فطالت المذابح الصغار والكبار، الشيوخ والنساء، العامة ورجال الدين، التجار ورجال الفكر والثقافة والفن والسياسة، وهذه حقيقة معروفة، والدنيا كلها تشهد على هذه المذابح، وإذا كان الأتراك ينفونها أو يتبرؤون منها، فإن التاريخ لن ينساها، و ذاكرة الشعوب لا تموت أو تنسى”.

ونبقى في الرقة حيث تتشابه الذكريات والروايات وعندما تغوص في فكر أهلها تجد أن لديهم مفهومهم الخاص للمذابح مما يجعلهم يتحولون إلى شهادات حية.

لا يمكننا تناسي أول رواية سورية تتناول مأسـاة الأرمن. إنها رواية “الهدس” للكاتب إبراهيم الخليل من الرقة، حيث قدم الأرمن كشعب وليس كمذهب ديني أو كمشردين ولاجئين. إبراهيم الخليل أحد المبدعين السوريين في القرن العشرين في مجال القصة، يتوجه بحديثه إلى الجيل الجديد من الأرمن ليقول:”إن الجيل القديم واجه الصدمة ودفع الثمن مباشرة والجيل الثاني هو الذي استطاع أن يدخل إلى نسيج الحياة اليومية ويتحول من نازح أو مشرد إلى مواطن له مشاركته الحقيقية في بناء المجتمع الذي يعيش فيه فلا يكون عالة عليه وإنما شريكاً. فالجيل الثالث المنوط به الآن هو توكيد الهوية الأرمنية والعودة إليها وهي النقطة الأهم”.

ومن حديثنا مع إبراهيم الخليل يتضح أن البعض في الرقة قدم المساعدة للأرمن انطلاقاً من مناصبه الحكومية والبعض الآخر انطلاقاً من إنسانيته كعائلة الكاتب الخليل.

لقد عايش الكاتب النتائج المباشرة للمأساة ، وبذلك يتطرق للموضوع المطروح على نحو مختلف. ويقول: “لم يكن ما جرى قتلاً أو مجزرة أو وحشية وإنما كان كل ذلك وأكثر، فالبراري جافت من جثث الحوامل والشيوخ والأطفال الذين خلفتهم طوابير الترحيل القسري في أورفة والرقة ومسكنة ودير الزور والشدادة ومرقدة ولا زالت صورها في ذاكرة الناس توارثوها عن الآباء كجزء من طوفان الموت الأرمني. حتى الأنهار الفرات ودجلة والخابور فاضت بأولئك القتلى”.

وكلما غصنا في الروايات والأعمال الأدبية للكتاب السوريين وجدنا أن الشخصية الأرمنية حاضرة بماضيها الوحيد والحزين إنما تحت أسماء مختلفة.

ها نحن أمام مؤلفات الكاتب الذي استحق لقب أحد المبدعين السوريين في القرن العشرين في مجال الرواية، الروائي المعروف عبد الرحمن منيف الذي اتضح أنه كان له أصدقاء أرمن كثيرون من أطباء ومصورين. إن الإنسان والشخصية الأرمنية حاضرة لا تغيب عن روح الكاتب وروح رواياته، ولأن الأرمن شكلوا قسماً لا بأس به من ذكرياته، دعاه ذلك لأن يجعل الشخصية الأرمنية أحد المفردات الأساسية في بعض الروايات التي كتبها. فشخصية سورين مثلاً في “سيرة مدينة عمّان”، وأكوب في “مدن الملح”، وميناس ووالدته في “أرض السواد”.

لقد كتب عبد الرحمن منيف، وكان من أشهر الروائيين العرب المعاصرين، عن الشخصيات الأرمنية تلك لأنه لا يرى خارطة بلاد الشام مكتملة إلا بوجود هذا الطيف من الشخصيات الغنية وذات الدلالة. ويحلل المسألة لينقل لنا مفهومه عنها ويكتب في إجابته: “لقد تعرض الشعب الأرمني في العصر الحديث إلى ظلم لم تتعرض له إلا شعوب قليلة في هذا العالم. حصل ذلك نتيجة التعصب وضيق الأفق والمكر الدولي”.

ويشير إلى حقيقة أن الطورانيين أرادوا أن يثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم قادرون على الانتقام وخلق الأمثولة. وفي نفس الوقت يلمح إلى الأوروبيين الذين كانوا غارقين حتى الرقاب بحسابات الربح والخسارة فسكتوا أو تواطؤوا حتى كان الشعب الأرمني الثمن.

إذا ابتعدنا وذهبنا الى شرق سوريا إلى حيث الرمال تحكي حكايات حزينة ومغبرة حتى تكاد تخنق سامعيها. سنجد هناك في فكر المثقفين والمفكرين السوريين مفاهيم تضيف إلى الحقيقة موقف ابن المنطقة.

في كتابه “تاريخ دير الزور” ينقل الباحث أحمد شوحان من منطقة دير الزور حقائق تاريخية ويكتب فيه عن الأتراك ما يلي: “لقد اتبعوا أساليب القمع والإرهاب وعملوا من أجل تتريك العرب الذين نزل القرآن بلغتهم وضربوا العشائر الفراتية ببعضها في سوريا والعراق”[7].

وعند مقابلتنا وطرح أسئلتنا يعطي الباحث شرحاً مفصلاً عن العلاقات العربية الأرمنية التاريخية ويعقد مقارنة بين معاملة العرب والأتراك للأرمن. فالعرب عند دخولهم أرمينيا لم يرغموا الأرمن على اعتناق الإسلام. أما الحكومة العثمانية فقد فرضت التهجير القسري والقتل حتى أدى إلى تمزيق أرمينيا. وفيما يتعلق بالطورانيين يظهر شوحان أن يهود الدونمة كانوا يعملون لهدم الخلافة وزرع الأحقاد بين الأقليات. ومن ثم يذكر بافتخار أن الأرمن هم الذين تمكنوا من قتل جمال باشا السفاح الذي أعدم الأرمن والعرب. أما عن موقف الديريين تجاه السوقيات يقول: “يعجز قلمي عن وصف السوقيات فقد كان الديريون يأسفون لما حل بالأرمن رجالاً ونساء وأطفالاً. يكفي أبناء هذه المنطقة نبلاً وكرامة أنهم أحسنوا إليهم رغم أنهم كانوا يعانون ويلات المجاعة التي حلت في وادي الفرات وأنهم كانوا يختطفون كثيراً من الأرمن من بين الجنود لإيوائهم وتهريبهم لإنقاذهم من الموت الزؤام”.

يرفض الباحث أحمد شوحان الإبادة ويدينها ويرفض بداية التهجير الجماعي قسراً وينظر للأمر من الناحية الدينية فيقول: “الإسلام لا يرضاه ولا يقره، ويعتبره وصمة عار في جبين الذين اقترفوه وعملوا من أجله”. ويبين أن المسلمين حزنوا على ما نال الأرمن من شقاء أكثر مما فرح به المسؤولون الأتراك وشفوا صدورهم.

نستخلص مما جاء في أجوبة أصحاب الفكر والثقافة السوريين أنهم يرفضون الإبادة ويجمعون على أن الإبادة تخالف الإسلام، ويقرون أن جريمة الإبادة أتت بعد اتخاذ قرار بها وهي ليست فقط ضد الأرمن بل ضد الإنسانية.

د. نورا أريسيان
نيسان 2010

ملحق “أزتاك” العربي


[1] موسى برنس: مجازر الأرمن جرائم ضد الإنسانية، حلب 1996، ص 42. موسى برنس هو مفكر حقوقي لبناني ورجل قانون دولي. والكتاب المذكور هو بحث طرحه في -المؤتمر العالمي الثاني لمنع حدوث الجرائم- في باريس عام 1965.

[2] علي سلطان ، باحث ومؤرخ . من مؤلفاته: (تاريخ الدولة العثمانية) ، ليبيا 1995، و(تاريخ سوريا 1908-1918) ، دمشق 1987، و(تاريخ سوريا أواخر الحكم العثماني)، دمشق 1991.

[3] خليل موسى : عضو اتحاد الكتاب وباحث . من مؤلفاته مع نعيم اليافي : (نضال العرب والأرمن ضد الاستعمار العثماني )، اللاذقية 1995

[4] منذر الموصلي : باحث وعضو مجلس الشعب . من مؤلفاته : ( عرب وأكراد ) ، بيروت 1986

[5] منذر الموصلي : ( عرب وأكراد ) ، بيروت 1986 ص 203

[6] سمير عربش : (أرمينيا ، أرض وشعب) ، بيروت 1991

[7] أحمد شوحان : تاريخ دير الزور ، دير الزور 1989 ص 68

Share This