اللقلق الطيب

الكاتب بوغوص سنابيان

الى جانب الجبل، والنهر، والبحيرة، والشجرة المقدسة، كل بلد لديه طائر يحبه: النسر، طائر الكركي، البلبل، أو القبّرة، وغيره.

أما في حالتنا، فمنذ غابر الأزمان، كان اللقلق أكثر الطيور قدسية، وهو المنتظّر والمقدَّر والأليف كفرد من أفراد العائلة.

في القصص التي سمعناهاه وقرأناها، كل أبناء الشعب الأرمني الذين جاوروا اللقلق يعودون الى صوت التقاليد المقدسة، ويشعرون أنهم مدينون باستقبال عودته المتعبة، والاهتمام به، ومساعدته في تجديد عشه، وتضميد جراحه، وضيافته تحت سقف بيوتهم، ومتابعة معيشته، ورواية كل حركة، والذهاب لوداعه، ونثر التمنيات بوصوله الآمن، وتوقّع الحظ عند ذهابه وعودته.

وبدوره هذا الطائر الإنساني والودود، نكاد نقول أنه المحب للأرمن، حاز على مكانة كبيرة في تقاليدنا وكتبنا وأغانينا وفننا بفضل خصائصه تلك.

أسرار الطبيعة مبهمة، وبدلاً من أن تأتي التجارب العلمية على مر القرون بالحلول تراها تثقل ستار النصائح. فمثلاً، مَن يرغم اللقلق العائد الى الوطن أن ينزل في عشه القديم حينما لا يجد بقربه الناس التي ألفها، ولا يجد الحركة القديمة حول عشه، فيواصل موحشاً طيرانه الى أفق مختلفة؟

الإخلاص للعش، نعم، ولكن هو إخلاص للصديق الإنسان في ذات الوقت. هذه قصة محزنة، حزينة هي كل القصص المرتبطة باللقالق، الثأر الهائل للزوج المخدوع، محرقة الأم غير المفهومة، وتجسيدات الحماس لاستمرارية الشعب أكثر من الحفاظ على الشخص، التي تأتي سوياً لتضرب أعصاب الانسان كالمغزى.

ليس عبثاً أن يبدي شعبنا حناناً جديداً من القدسية حيال هذا الطائر. فاللقلق رمز حي يشير الى جوهره، مجّد، محب، مضّح، مخلص، غريزته في الحفاظ على بيته وجنسه لا تقهر.

ومن هذه المعاني طبعاً انبهر الرسامون والموسيقيون والشعراء والكتاب والشخصيات الحزبية والثورية الأرمنية بالحياة الخاصة لذلك الطائر، فرسموه وكتبوا عنه بإثارة، وعبروا عن تجاربهم المتعلقة به بحيث يشعر المستمع أو القارئ أنه دون شك أمام ظاهرة خاصة فينغمر في شعور عذب.

لا شك أن المرء المتابع للصحف الأجنبية والتلفاز يلاحظ أن الشعوب تعطي أهمية كبرى اليوم للحيوانات البرية، ويحاولون بذل جهود كبيرة لتكاثر أنواعها، فهؤلاء ينضوون تحت الزينة الحية للطبيعة، ويؤججون شوقاً ويشعلون القلوب ربما للحياة اليومية الآلية.

هذا السلوك ينسحب أيضاً على وطننا، المحافظة على الطبيعة وإغناءها بكائنات غير لسانية، دائماً من أجل الانسان وتنفسه والقليل من سروره.

نحن الذين حرمنا من المتعة المتحركة والجميلة في الوطن، وكُتب لنا أن نرى في المهجر فقط الأبنية وناطحات السحاب من الحجر والحديد، محكومون بأن نجد في الصور والنوتات والكلمات عزاء لأرواحنا المشتعلة شوقاً.

1984

(مجموعة قصصية “داخل وكرنا”، بوغوص سنابيان، بيروت، 2007، ص 195).

Share This