ما أوحته الصور الحزينة لبيروت من حزن وخوف ..

نورا بارسيغيان

محررة في جريدة أزتاك الأرمنية – بيروت

حين قررت تغيير صورتي في الصفحة الشخصية على الفيسبوك تساءلت لماذا تكون صور جبل أراراد ويريفان (الصباحية والمسائية) ومواقع في أرمينيا حاضرة وتحتل مكانها بجدارة. أردت، وأنا أدرك الجواب، أن أكبت هذه المرة مشاعر الحنين والوله وأتجاوزها.. وعلى الفور، كتبت كلمة “بيروت” على محرك البحث “غوغل”، وانتظرت والابتسامة تعلو وجهي لاختيار أفضل الصور الوافرة التي تفتح أمامي…

نعم، رحبت العديد من الصور بي، إلا بابتسامتي التي اختفت على الفور. وتكشفت أمامي بيروت الجريحة بكل حللها، وصرخت في وجهي، بأنها مهما حاولت وضع أقنعة فداخلها يبقى جريحاً، مثقلة بالصور المروعة، غير متسامحة مع فاجعة وفاة أبنائها…

كانت بيروت تتجلى متألمة بألم لبنان كله، وبالصور المفجعة للبنان بأكمله.

صور عديدة تجسد مختلف أنواع الأنقاض والأزمان…

صور عديدة تخلد لحظات التفجيرات وترسم الموت الخالد…

صور عديدة ملونة بألوان الرعب والهول والعذاب والأم …

بيروت…

هي مجرد كلمة، اسم عاصمة، لكنها ملخص للكابوس اللبناني، ولرعب اللبنانيين وفزعهم، للمعاناة والدموع، للموت والدمار…

لم أغلق الصفحة، بل تابعت التصفح، رغم أني فارقت ابتسامتي، رغم دخولي في مزاج آخر، رغم غوصي في أحضان أفكار وأحاسيس مختلفة.

سلسلة صور، تبدو وكأنها تسرد حكاية: من الحرب الأهلية اللبنانية “البراقة” بالأبيض والأسود، حتى الانفجارات القاتلة في المناطق السكانية، وحرب تموز القاسية التي دمرت وسوّت الأحياء بالأرض، والتفجيرات المتجددة تنقل الشيطان حامل المنجل وهو يحصد الحياة.

كل ذلك خلّف نتيجة “طبيعية”، إنما عواقب غير طبيعية من دمار هائل، وخوف، ووجوه مرعوبة، وأناس يحاولون الهرب من الحريق وإنقاذ حياتهم، وصراخ الذين أخفقوا في إنقاذ الأطفال من مخالب الموت، أنقاض حجارة وذكريات، بيوت منكوبة توقفت عن نبض الحياة، اندلاع تفجيرات، جرحى في أجسادهم وأرواحهم، أناس ينبشون بين الجثث ويأملون ألا يجدوا أقاربهم، حالات لأجساد بشرية مرفوضة من الإنسانية…ألعاب مصيرية…

ألعاب… بعيدة جداً عن ألعاب الأطفال الأبرياء، لكنها قريبة جداً من منع ألعاب الأطفال الأبرياء. ألعاب إجرامية، لكن لا يمكن للمجرمين أن يشعروا بها. بل هي معدَّة على حساب مَن لا يعرف حتى التفكير بالجرائم. ألعاب مدتها دقائق معدودة، ولا يمكن إخفاء عواقبها لعشرات السنين…

مَن منح الضمير للناس لإعداد تلك الألعاب، ومَن قال أن الشعب البريء مستعد لمشاركتهم… مَن يعطي الحق لمعدّي الألعاب الكبيرة والقاسية، لكي يقتلعوا حلم الفتاة بالوصول الى عمر تلبس فيه حذاء أمها، مَن أعطى الحق لمَن يقف وراء تلك الألعاب التي تهدم وتخرب، لكي يحرموا الطفل نشوة انتظار والده العائد الى البيت ومعه الشوكولاه، مَن يعطي الحق للذين يسمون “كباراً”، لكنهم كبار بالجريمة فقط، لكي ترغم الأم التي جهزت سترة عرس ابنها أن تضعه في التابوت بذات السترة…

مَن، قولوا مِن فضلكم، ليتكلم العالم المتحضر والمتطور، لتتكلم الإنسانية التي تقود العالم بالتقنيات…

في سنوات الحرب الأهلية عندما أغلقت المدارس بشكل مؤقت أبوابها المتضررة من الرصاص أو شظايا القنابل، لأنه من الصعب ممارسة التعليم في صفوف مدمرة أو دون نوافذ، كنا نحن الأطفال نتجمع ونلعب ألعاباً مختلفة. كان بمقدورنا وبشكل طبيعي أن نؤلم ونغضب بعضنا بعضاً، ونتدافع… وكان الكبار ينصحوننا ويشرحون لنا بأن اللعب هو من أجل الفرح والرفقة الطيبة، وليس أبداً لنؤلم بعضنا أو نجرح بعضنا…

لكن مَن يملك دناءة اللعب بمصير الآخرين أثبت العكس دائماً، وما زال…

ربما في هذه الحالة، يحتاج الكبار نصيحة الصغار بعدم اقتلاع حقهم في العيش بلا رعب وبكاء خلال الألعاب القاسية…

***

من حضن الحقيقة اللبنانية المرة المنبعثة عبر شاشة حاسوبي أخرجتني فجأة حلقة أخرى أضيفت الى سلسلة الحقيقة اللبنانية المرة المنبعثة عبر شاشة التلفاز…

انفجار قوي يدوي في الضاحية الجنوبية، مئات الجرحى وعشرات الوفيات…أبنية سكنية تحترق، والحريق يبتلع كل شيء وكل شخص…

بعد فترة قصيرة، خمد النار، لكن النار في روح الزوجة الأرملة التي تنتظر عبثاً زوجها لم تخمد. يعاد إعمار الأبنية، لكن لا يمكن إعادة إعمار صورة الأب للطفل الذي بقي يتيماً في عمر السنة، كل شيء يعاد الى ما كان عليه، لكن الذين رحلوا الى الأبد لن يعودوا…

***

بيروت … عندما أبحث في “غوغل” في المرة القادمة عديني أن تظهري فقط بشاطئك الهادئ، وحياتك الليلية الصاخبة، وجبالك البديعة، وصور لا تقتلع ابتسامتي…

عديني أن تخلعي الأسود على الحزن الذي سببه أبناؤك، وأن تلبسي الزي الملون، وتمنحي الحياة الملونة …

عديني ألا تسمحي بأن تعدّ ألعاباً، خارجة عن إرادتك، تؤلمك وتجرحك، وتؤلم مَن يعيش في حضنك وتجرحهم..

عديني أن تضجي فقط بالحياة، وألا تقبلي في جوف أرضك الدم الذي يسيل من أبنائك…

Share This